الترتيب لماذا؟


الترتيب لماذا؟

منذ الصغر كنت أحرص على وضع الأشياء في مكانها الصحيح دون مبالغة ولا تقصير، بل أذكر أنه لما ينصرف الضيوف وأسرهم من منزلنا كنت أجوب المنزل مرتبًا ومعيدًا لكل شيء في مكانه من دون أن يطلب ذلك مني أحد

مضت السنوات وجرى علي ما يجري على الناس من تغيرات وتنقلات واعتماد على غيري في الترتيب وخفتت هذه الحاسة لدي إلى أن عثرت على ذلكم الطلسم الذي أعاد لي تلك الروح وقدم لي نفسي مجددًا ألا وهو:

"سحر الترتيب – الفن الياباني في التنظيم وإزالة الفوضى" لـ "ماري كوندو"

إنها صاحبة طريقة مميزة في الترتيب تحدثك كمرشد روحاني لا كخبيرة منزلية

إنها تبث روح الانتعاش في قارئها ليحاول محاكاة تلك الكلمات الواضحة التي تتعامل بها مع الأشياء

إنها تعاملها ككائنات حية جديرة بالاحتواء أو الوداع المحترم، وحتى رمي الأشياء تحول معها إلى فن له أصول

الغريب في الأمر ومع أن الشعب الياباني شعب منظم إلا أن "ماري" تتحدث عن فوضى المنازل اليابانية وردود أفعال عملائها المفعمة بالسعادة بعد زيارة خاطفة لمنزلهم تعيد إليها الحياة بعد إزالة ركام السنين والخردوات والغبار

لقد بيع من كتابها في اليابان وحدها مليون وخمسمئة نسخة، وهذا اعتراف ضمني من هذا الشعب المرتب بسمو هذا الكتاب وعائدته عليهم، وفي أمريكا بيع مليون نسخة وغيرها من الدول

طَبَّقْتُ ما جاء في فصول هذا الكتاب ووجدت أنها تعاليم تغرس وليست معلومات تُقرأ وتُنسى

وقد ساعدني ذلك على إسقاط هذا الفن بأصول "ماري" على:

(الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات)

وذلك لكسب التوازن في هذه الميادين فالترتيب يعني الوضوح والوضوح يعني رؤية الأشياء كما هي عليه وفي حجمها الطبيعي وبعد ذلك بالإمكان ممارسة التوازن بعدما اتضحت الرؤية أكثر فأكثر، فهل للترتيب قواعد وأصول وما هي؟

أصول الترتيب

تحدثت المؤلفة عن ترتيب الأغراض المنزلية والمكتبية من خلال أصول وقواعد منها:

إن إعادة التنظيم الجذرية للمنزل تفضي حتمًا إلى تغييرات جذرية في أسلوب عيشك ومنظورك، إنها مسألة مبدِّلة للحياة.

تقول "ماري": ((يبدو زبائني دومًا سعداء، وتُظهر النتائج أن الترتيب بدَّل طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في الحياة، في الواقع لقد بدَّل الترتيب مستقبلهم، لماذا؟

يمكن القول مبدئياً إنك حين ترتب منزلك فأنت ترتب أيضاً مستقبلك وماضيك ونتيجة لذلك يمكنك أن تدرك بوضوح ما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه في حياتك وما يجدر بك فعله وما لا يجدر بك فعله)).

وإذا أردنا أن نسقط ذلك على (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) سنرى الأمر أكثر وضوحًا فـأفكار وأعمال وعادات وعلاقات الماضي لها أثر على الحاضر وبذلك تؤثر في المستقبل

وعليه فترتيب (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) يعيد إليك الحيوية ويشعرك بالتغيير الإيجابي ويجعلك تحقق تقدمًا ملموسًا يسهل قياسه والتحقق منه، وبلا شك أن ترتيب الأشياء من حولك يفرِّغك روحيًا وماديًا لهذه المهمة.

تؤكد "ماري" ((على أنَّ السبب في عودة الفوضى مرة أخرى في كل مرة نقوم فيها بالترتيب ليس الافتقاد للمهارات وإنما الافتقاد إلى الوعي وعدم القدرة على الترتيب بفاعلية، بتعبير آخر يكمن أساس المشكلة في العقل فالنجاح يرتبط بنسبة 90% بتفكيرنا وإذا استثنينا القليلين المحظوظين الذين ولد التنظيم معهم بصورة فطرية فإن العودة إلى الفوضى أمرٌ محتّمٌ إذا لم نعالج مسألة التفكير)).

إذن لا بدّ من إعادة النظر في مستوى الوعي وهل هو بدرجة كافية لنحكم على (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) وبحسب نظرتنا لهذه المجالات ونمونا المعرفي والعاطفي يتحدد مصير التغيير الذي نروم والترتيب الذي نتطلع إليه إنها مسألة وعي قبل كل شيء.

تذهب "ماري" ((إلى أن طريقتها ليست مجرد مجموعة من القواعد حول كيفية فرز الأشياء وتنظيمها ووضعها في مكانها الصحيح، بل إنها دليل لاكتساب طريقة التفكير الصحيحة بهدف توليد النظام والتحول إلى شخص مرتب)).

شخص مرتب في (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) يعني ذلك حياة مرتبة هانئة سهلة مفعمة، بها مساحات للترفيه والعطاء والاسترخاء والتخلص من سموم النفس والبدن، والتفتح على مظاهر في الحياة جديدة تعينك على تخطي الصعاب وتحقيق النجاحات بقلب كبير وثغر مبتسم.

كما ترى ((أنها مهما كانت مثالية في نصيحتها بالتنظيم وطريقة التخزين الصحيحة لشخص آخر فإنها لا تستطيع أن ترتب منزل شخص آخر بالمعنى الصحيح للكلمة لماذا؟

لأن إدراك الشخص ومفهومه لأسلوب عيشه أكثر أهمية من أية مهارة في الفرز أو التخزين، فبالفعل يرتبط الترتيب بالمفاهيم الشخصية لأسلوب العيش الذي يريده الشخص)).

وبالفعل فـ (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) أشياء خاصة بك وأنت الوحيد الذي يقف على تاريخ هذه (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات)

كيف بدأت؟

كيف تكوَّنت؟

كيف تراكمت؟

وما هي الظروف التي احتفت بنشأتها والبيئات التي مررت بها وأثرت فيك؟

وعليه فمهمة ترتيبها تقع على عاتقك أنت وليس على عاتق غيرك فقم بها كما ينبغي لأنك إن انتظرت من يُقيِّم حياتك أو يرتبها أو يغيرها للأفضل فلن تجد وإن وجدت فلن يكون ذلك بالشكل الصحيح.

تذكر "ماري": ((أنه لا يستطيع الأشخاص تبديل عاداتهم من دون أن يبدلوا أولًا طريقة تفكيرهم وليس هذا سهلًا ففي النهاية تصعب السيطرة على ما نفكر فيه لكن ثمة طريقة لتحويل طريقة تفكيرنا بشأن الترتيب)).

هذه من الإلماحات اليسيرة في الكتاب والتي دعتني للربط بين ترتيب الأشياء وترتيب الأفكار والأعمال والعادات والعلاقات، فالعادات نتيجة الأعمال والأعمال نتيجة الأفكار وبقوام ذلك تتحدد العلاقات فالبداية تكون بترتيب الأفكار والبقية تأتي، فهل الترتيب يكذب؟

الترتيب لا يكذب

تقول "ماري" ((الترتيب لا يكذب أبداً فهو يعطي نتائج منظورة، وأبرز سر للنجاح هو ما يلي:

إذا رتبت كل شيء دفعة واحدة وليس على دفعات فبإمكانك تبديل تفكيرك بصورة جذرية وهذا يُحدث تبديلًا عميقًأ جدًا حيث يلامس عواطفك ويؤثر حتمًأ في طريقة تفكيرك وعاداتك في أسلوب العيش، حين يعود الناس للفوضى فالخلل يكمن في طريقة تفكيرهم وليس في غرفتهم أو في أغراضهم، يكمن السبب الأساسي للمشكلة في عدم قدرتهم على رؤية النتائج أو الإحساس بالتأثيرات، فإذا استخدمت الطريقة الصحيحة وركزت جهودك على التخلص من الفوضى بصورة كاملة وتامة في غضون وقت قصير فسوف تلاحظ نتائج فورية تحفزك على إبقاء مساحتك مرتبة على الدوام، وفي الواقع إن أي شخص يعيش هذه التجربة سيقسم حتمًا على عدم العودة إلى الفوضى مجددًا)).

وهكذا عندما ترتب (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) فستولد مرة أخرى وتتنفس هواءً جديدًا وتعيش عمرًا آخر بأحاسيس ومشاعر، بل وبخلايا جسمية جديدة ولا يمكن بعد ذلك أن تفرط في هذا الجو النشط والذي يحملك على مزيد من الأعمال الناجحة والمتنوعة بعدما نفضت عن كاهلك غبار (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) المتراكم عبر السنين وذلك يكون كما تذكر ماري دفعة واحدة لا بالتدرج والتأجيل والمماطلة، بل دفعة واحدة، وبكل قوة لتعود المياه الصحية تتدفق في بساتين حياتك وتروي جدبك الروحي والأدبي.

وليس المقصود بترتيب العلاقات هو قطعها بل إعطاء الحقوق فيها كما يجب وبالترتيب المناسب مع المحافظة على مسافة معقولة تتكفل بحفظ الود ودوام الوصل، ولا يعني ذلك تجرع مرارات العلاقة السامة بقية عمرك، ولا يعني ذلك أن الجميع لا بد أن يكونوا أصدقاء فهناك خانة للصداقة فمن لم يصلح لها ينتقل إلى خانة المعارف وليس بالضرورة إلى خانة الأعداء!

تقسم "ماري" العمل إلى نوعين:

1-تحديد ما إذا كان يجب رمي الشيء أم لا.

2-تحديد المكان الذي يجب وضعه فيه.

"الغرفة الفوضوية تعني عقلًا فوضويًا" هكذا تصف "ماري" الفوضويين وتحذرهم من السماح للارتياح المؤقت الناجم عن الترتيب للأشياء المادية لأنك لن تدرك بعدها الحاجة إلى الترتيب النفسي، فإذا كنت عاجزًا عن الإحساس بالاسترخاء في غرفة نظيفة ومرتبة فواجه إحساسك بالقلق وحينها ستدرك ما يزعجك فعلًا وستجبر على التعامل معه وحينها ستتغير حياتك للأفضل، لهذا السبب يجب إنجاز مهمة ترتيب المنزل بسرعة كبيرة فهذا يتيح لك مواجهة المسائل المهمة فعلًا؛ الترتيب مجرد أداة وليس المقصد النهائي كما تذكر.

بالفعل لا بدَّ من النظر إلى (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) من زاويتين الأولى هل هذه (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) أصبحت عبأً ثقيلاً وقيداً قلبياً مزمناً؛ وعليه فلا بدَّ من التخلص منها، أم أنها وُضعت في مكان غير مناسب أو وضع بعضها على بعض مما شكل فوضى وعدم ارتياح والواجب وضع الأمور في نصابها وإرجاع (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) في مكانها الصحيح وترتيبها من جديد.

توصي بأن يكون الترتيب وفق الفئة وليس الموقع كي لا نكرر العمل نفسه في مواقع عدة لندخل في حلقة مفرغة، فلا ترتب اليوم غرفة وغدًا أخرى بل رتب اليوم الكتب وغدًا الأوراق والمستندات والفواتير والمذكرات واليوم الآخر الأدوية والثالث غيرها وهكذا.

وتصنف غير المرتبين إلى ثلاثة أنواع:

1-الذي لا يستطيع رمي أي شيء.

2-الذي لا يستطيع إعادة الشيء إلى مكانه.

3-الذي يدمج النوعين السابقين معًا.

بعضهم لا يستطيع التخلص من (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) الضارة وبعضهم لا يستطيع وضع (الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) في مكانها الصحيح فليست الأفكار كلها على درجة واحدة من الصحة وليست الأعمال كلها على درجة واحدة من الأهمية وليست كل العادات على درجة واحدة من الفائدة وليست العلاقات كلها على درجة واحدة من التفضيل، فإذا اقتنعنا بهذا يأتي السؤال ما أنواع الترتيب؟

أنواع الترتيب

تصنف المؤلفة الترتيب إلى نوعين:

1-الترتيب اليومي.

2-ترتيب الحدث الخاص.

النوع الأول يتصل باستعمال الشيء وإعادته إلى مكانه وهذا سيظل جزءًا من حياتنا، ولكن المقصود الأهم هو (الترتيب الحدث المميز) كما تسميه، والذي هو عبارة عن عاصفة مدوية تقتلع الفوضى من حياتك للأبد سواء في (الأشياء - الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) واعلم أن أي "ترتيب يومي" قبل هذه العاصفة محكوم عليه بالفشل سلفًا، إذن أنت مطالب بوقفة مغربلة لما مر ويكون ذلك مرة واحدة، دفعة واحدة، بقرار كبير يُنْبئ عن وثبة من وثبات الحياة ونقلة من النقلات الضرورية لمدك بدماء وهواء جديدين مما يضمن لك مغادرة الفوضى من حياتك للأبد، لا تخشَ شيئًا فلن تعود تلك الكراكيب من (الأشياء - الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) إن قمت بهذه المهمة على وجهها الصحيح وعليه فالأمر يخضع تمامًا للنسبية، يتيح لك هذا الإجراء الاتكاء على أريكة راحتك النفسية لتنظر من حولك باتزان في عوامل البناء والرفاه المادي والمعنوي، فمن أين تكون البداية؟

الرمي أولًا

تفرد "ماري" فصلاً بعنوان "الرمي أولًا" تتحدث فيه على أنه لا يمكن بحال أن ترتب ما حولك إلا إذا ملكت شجاعة رمي الأشياء التي لا تحتاج إليها بدون استثناء أو التواء إنه "فن التخلص من الأشياء" وهو عنوان لأحد الكتب في هذا الموضوع، ولكنها تؤكد على تحديد الهدف قبل الشروع في عملية الرمي، لماذا أريد أن أرمي هذه الأشياء؟

كي أقضي على الفوضى!

لماذا تريد القضاء على الفوضى؟

كي أترتب!

لماذا تترتب؟

هدف الترتيب

إذن لا بدَّ من تحديد الهدف بل والتمعن فيه من أجل أن يتغلغل في أحشائك ولذلك عائدة عظمى على استدامة الترتيب، تخيل المكان بعدما خلا من الفوضى وتخيل مستوى العيش الرفيع المصاحب لذلك وأقرن ذلك بترتيب (الأشياء - الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات).

إذن لا بدَّ من رمي الأشياء التي لم تعد صالحة للاستعمال ولكن هل ينطبق هذا الأمر على الأشياء "البين بين" سيشعر المرء بحيرة شديدة أمام (الأشياء - الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) "البين بين" وقد صرحت "ماري" أنها أصيبت بإحباط نظراً لأنها في البدايات كانت تهتم بالرمي فقط وفي فورة هذا الرمي نسيت ما الأشياء التي تحبها وتعني لها الكثير وتدخل عليها السرور، وهنا التمعت في ذهنها فكرة أنه يجب علينا أولًا تحديد ما نحب أن يبقى إلى جوارنا وذلك عن طريق تصنيف الأشياء كما مر وبسطها كلها في مكان واحد وبعد ذلك رفع كل قطعة على انفراد والتأمل فيها وأطلق ليدك الحرية في الرمي أو الضم إلى الصدر بحنو ولا ننسى أن نطبق هذا على (الأشياء - الأفكار - الأعمال- العادات – العلاقات) بتفصيل يناسب كل شخص ونوع على انفراد نظرًا لاختلاف الأحوال والبيئات والظروف، ولكننا بعد الترتيب سنفقد الكثير من الأشياء فهل القليل يكفي؟

القليل يكفي

في الحقيقة أن التخلص من الأشياء اليوم ليس فنًا فقط بل وكما ذكرنا في فصل الاستهلاك أن الشركات المنتجة تجعل لكل مُنتج تاريخ صلاحية قصير الأجل وتتفنن في إنتاج قطع الغيار وأدوات الصيانة أكثر من اهتمامها بالمنتج نفسه، بل إن ميسم المزاج العام للحياة في زمن العولمة يتطلب التخلص من الأشياء العتيقة ورميها بعيدًا والدخول في دوامة استبدال للأشياء والعلاقات والأفكار فليس هناك شيء دائم ولا شيء مستقر ولا شيء ثابت

وأضيف هنا كلام لـ "زيجمونت باومان": ((خلاصة القول أن الحياة السائلة حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم، وأشد هاجس يساور المرء في تلك الحياة هو الخوف من أن تأخذه على حين غرة، ومن الفشل في اللحاق بالمستجدات المتسارعة ومن التخلف عن ركب السائرين، ومن إغفال تواريخ "نهاية الصلاحية" ومن الاحتفاظ بأغراض مهجورة، ومن فقدان اللحظة التي تدعو إلى تحول في اتجاه السير قبل عبور نقطة اللاعودة، فالحياة السائلة سلسلة من البدايات الجديدة، ولذا فإن النهايات السريعة المؤلمة التي لولاها لكانت البدايات الجديدة خارج طوق الفكر هي عادة أصعب لحظات الحياة السائلة وأوجعها، وهكذا فإن تعلم أسبقية التخلص من الأشياء على تملكها صار أحد فنون الحياة الحديثة السائلة وإحدى المهارات اللازمة لممارستها)).

ويقول: ((إن النفايات هي المنتج الرئيس، بل والمنتج الأكثر انتشاراً في المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل، فإنتاج النفايات هو أضخم الصناعات في المجتمع الاستهلاكي وأكثرها حصانة من الأزمات))، ويضيف: ((إن المستهلكين المترفين لا يعبؤون بإلقاء أشيائهم في عالم النفايات إنهم وإنهنَّ بكل تأكيد لا يأسفون أبدًا، بل يقبلون العمر القصير للأشياء ووفاتها المقدرة سلفًا بكل أريحية، أحيانًا برغبة ولذة غير معلنتين، وأفضل البارعين في فن الاستهلاك من حيث المقدرة والذكاء يعلمون كيف يفرحون بالتخلص من الأشياء منتهية الصلاحية، فالبارعون في فن الاستهلاك يرون أن قيمة كل شيء تكمن في مزاياه وعيوبه على حد سواء فالعيوب المعلومة، والعيوب التي ستظهر فيما بعد تعد بالتجديد والتجدد الكامن، وبمغامرات جديدة، وتجارب حسية جديدة، وملذات جديدة في مجتمع المستهلكين)).

إذن المؤلفة استطاعت أن تقبض على شغف الإنسان المعاصر والذي يكمن في اللاوعي ومزجته بثقافتها اليابانية البسيطة والتي تُعنى بمساحات نظيفة بها القليل جدًا من الأدوات العملية المألوفة لعين وقلب صاحبها فأنتجت هذه النظرية وألَّفت هذا الكتاب المليوني فكانت ضربة أستاذ

وأنا أنقل هنا عن "باومان" من أجل تحقيق قدرًا من التوازن في نظرتنا للتخلص من الأشياء وفهم هذه الحالة الإنسانية المعاصرة العامة مع التوفيق بينها وبين الاحتفاظ بالأشياء العزيزة والأدوات المتينة والتي ما زالت تعمل ولنا بها علاقة خاصة أو تاريخ شراء عزيز أو أي نوع من أنواع الذكرى مع تحقيق العملية والإنتاجية في الحياة، فبالفعل إن تنظيف الأدراج والغرف والمكاتب من الأشياء المتراكمة والتي تجلب الغبار وتعيق الطريق وتحجب الرؤية وهي بلا فائدة لها دور في حياة الإنسان وتنفسه للهواء النظيف والفاعلية في الحياة، ولا يخفى ما في النقل الأخير عن "باومان" لمَّا تحدث عن فرح المستهلكين بانتهاء صلاحية السلع ليعودوا إلى السوق مرة أخرى ما للضعف الروحي من أثر فالروح إذا جاعت ولم تلب دعوتها قام الإنسان بزيارة السوق ظنًا منه أنه قد يعثر على السكينة والطمأنينة على رفوف أحد المتاجر!

وللتوازن أيضًا اقترح الاطلاع على كتاب "فن البساطة" فهو يدعوك للتقليل من الاستهلاك وتأجيل الشراء لتحصل على منتج ممتاز ولو ارتفع ثمنه قليلًا إلا أن عمره طويل لتنشأ بينكما علاقة حميمة مع التأكيد على التقليل من الأثاث والمستلزمات في كل ركن من أركان المنزل ولذلك فائدة أن ترى الأشياء التي تحبها ناصعة أمامك فتتأمل ألونها وانحناءتها لا أن تكون مغمورة بين عشرات القطع والزخارف الباهتة، ولا يخفى أثر غزو المنتجات الصينية الرخيصة ورديئة الصنع والتي ملأت بيوت الناس ونفاياتهم، وكأن هناك عودة لا بأس بها للمنتجات الجيدة ولكن هيهات أن تسلم من نوبات الملل والتغيير غير المبرر، تنبأ "فكتور لبلو" بهذه الحالة بقوله: ((إننا بحاجة إلى أشياء تستهلك وتحرق وتبلى وتستبدل ونتخلص منها في سرعة لا مثيل لها)).

تظل الأشياء المكدسة في حالة سبات كما تصفها "ماري" ولكن عندما تجمعها في مكان واحد تحت ضوء النهار فإنها تنتعش مجددًا وتعبر عن نفسها وحضورها سواء كان حضورًا جميلًا أم لا، وهنا تبدأ بالتعرف عليها مرة أخرى، تؤكد "ماري" على أن هذا ينطبق على الأشخاص أيضًا فليس الأشخاص كلهم والذين تلتقيهم في حياتك يصبحون أصدقاء مقربين، فتجد صعوبة في الاتفاق مع البعض، أو ربما قد يستحيل عليك استلطافهم، لكن هؤلاء الأشخاص قد علموك أيضًا درسًا مهماً فيما يتعلق بالأشخاص الذين تحبهم فعلًا، حيث أصبحت تقدر أولئك الأشخاص أكثر فأكثر، وهذه من اللفتات التي جعلتني أسقط ترتيب الأشياء على ترتيب العلاقات، فهل نحن بحاجة لترتيب العلاقات أيضًا؟

ترتيب العلاقات

من المعضلات فعلًا التوسع في العلاقات وتكديس الناس بعضهم فوق بعض في حياتك بشكل نشاز (طباع وسمات وفهوم وميول) مختلفة وتأتي لتحاول سبك هذه الأجساد والأرواح المتنافرة في قالب واحد يناسب عقلك وقلبك وتسميهم أصدقاء وتوحي إليهم بأن بينكم حقوق الصداقة الكاملة فتنصدم بهم وينصدمون بك دون ريب، وعليه فيجب عليك في عصر التشتت وكثرة المشاغل وضعف الجوانب الروحية ونقص أخلاق الإيثار والصدق والنزاهة الشخصية أن تقلل وتفلتر وتنظم وترتب هذه العلاقات، فبعضهم لا بد من إخراجه من حياتك فورًأ وليس القصد القطيعة معه بل تبادله السلام، والبعض الآخر يُنقل من فئة الأصدقاء إلى المعارف وهكذا، وللأقارب تفصيل لا تسعه هذه التدوينة وقد مرَّ شيء من ذلك، وبعده تبدأ بالتركيز على إعطاء الحقوق كاملة دون انتظار النتائج، إن في ترتيب العلاقات راحة من الضغوط المهدرة

وعالم الأعمال ليس استثناء من ذلك ففي فرق العمل كما مرَّ معنا لا يمكن أن يتواطأ الفريق على قلبٍ وعقل واحد وليس هذا بمطلوب ولا مرغوب، فالفريق لا يكون فريقًا إلا باختلاف التنوع ولكن حدثني عن اختلاف التضاد!

عندما ينضم للفريق من لا يطيق روح الفريق ويسعى جاهدًا للمعارضة بحق وباطل على كل صغيرة وكبيرة!

حينها لا بد من تقريب وجهات النظر وتفهم الظروف وإزالة اللبس وإعطاء التطمينات اللازمة الحقيقية من الطرفين، وإما إعطاؤه عمل لا يحتك فيه مع أحد لأنه لا يستطيع ذلك ومن الظلم له إشراكه في فريق عمل إنساني راقٍ، فبعضهم قد قدم من بيئات ومجتمعات وأسر وتاريخ طفولة لا يمكن لها تجاوز بعض العقبات إلا بمراحل كبيرة قد لا تستطيع أنت وفريقك الصغير تمهيدها لمثل هذا، وإما وهو الخيار الأصعب مساعدته في البحث عن مكان آخر يتوافق مع نفسه العاجزة عن مشاركة النجاح وصناعته، خيار مؤلم ولكنه ضروري وحاسم وفي الصالح العام، وأخيرًا ماذا عن ترتيب الكتب؟

ترتيب الكتب

وحتى الكتب لم تسلم من هجمات "ماري" فهي لا تتساهل البتة مع الكتب غير المقروءة والتي تشكل عبئًا على المكتبة وقد قالت الكلمة التي فعلت فعلها وجربتها فكانت صحيحة وهي:

((لاحظت في الآونة الأخيرة أن امتلاك عدد أقل من الكتب يزيد من تأثير المعلومات التي أقرأها، فأنا أتعرف إلى المعلومات الضرورية بسهولة أكبر)).

بطبيعة الحال لا أظننا بحاجة لاستثناء المراجع والكتب التي علقنا عليها تعليقات كثيرة مهمة ولكن المقصود هو التخلص من الكتب غير المفيدة لنا وغالبها من الإهداءات أو الروايات التي تُقرأ مرة واحدة أو كتب تطوير الذات والتي طبقنا ما فيها وصارت جزءًا من تكويننا، وكذلك فبعض الكتب تحتوي على ورقة أو ورقتين بهما معلومة مفيدة فلماذا لا نصور هذه الورقة ونضع لها عنوانًا في تطبيقات حفظ الوثائق وبهذا أصلًا نفعِّل ما فيها ونعمل به ونلخصه ونعيد النظر فيه، وأوصي كذلك بأن نراجع الكتب المهمة والتي أثرت فينا في الماضي فنلخصها على الحاسب الآلي بعناوين فرعية ونقاط مركزة ونطبعها ونقرأها ونتعقل ما فيها ثم نتخلص من هذا الكتاب ليرتاح المكان ويستوعب الضيوف الجدد والذين هم بطبيعة الحال أقلّ عددًا وأخفّ ظلًا

لقد أفادني هذا حتى في شراء الكتب وهي نتيجة منطقية، وبالفعل أشارت المؤلفة إلى ذلك فهي تطلب منك تعيين مكان واحد لكل غرض مما يجعلك تفكر مليًا في أي سلعة جديدة وهل لها مكان وما مدى أهميتها وتنهى أن تركّز على منظمات التخزين فقط لأنها أدوات إن لم يحسن استخدمها فستكون أداة فعالة لإعادة دفن الأشياء غير المحببة من جديد فتعود الفوضى ولكن بشكل ماكر، وعليه فالاستفادة من صناديق التنظيم تأتي بعد عملية الترتيب الآنفة الذكر وليس قبل ذلك.

ومن الكلمات المشجعة على الترتيب هو قول "ماري" ((سوف تذهل لدى اكتشافك أن الأشياء ستبدأ بالترابط في حياتك، كما ستذهل بالتغيرات الجذرية التي ستلي ذلك، إذ سيبدو الأمر كما لو أن لمسة سحرية قد أصابت حياتك، ترتيبك منزلك هو السحر الذي يفضي إلى حياةٍ نابضة وسعيدة)).

وتختم الكتاب بقولها: ((أنا مقتنعة أن ترتيبك منزلك سيساعدك على إيجاد المهمة الأحب على قلبك، والحياة تبدأ فعلًا بعدما ترتب منزلك)).

إذن ليس هو الترتيب للترتيب وإنما للتفرغ المادي والروحي لما نحب ولرسالتنا في الحياة

فالترتيب يمنحنا الوضوح الكافي لرؤية الأشياء من حولنا مرة أخرى كي نقف على أرضية صلبة متوازنة سواء في نظرتنا للأمور أو في اتخاذنا للقرارات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خريطة الوهم، تسمية الأشياء بغير أسمائها

متاهة العقول المتورمة "تضخم الجسد الفكري ودمية ماتريوشكا"

صيد السمك🎣 وصفة النجاح المستدام