هل قراءتك منتجة؟
الكتب كما هو معلوم وعاء العلوم وثمرات العقول وهي نتاج البحث
والتحليل والتقصي بعد الجمع والترتيب للأفكار والمعاني، ونذكِّر بأنه ومهما
كنت عاشقاً للكتب وجمعها وترتيبها في الرفوف إلا أنها تظل وسيلة وليست الغاية، تظل
قنطرة وليست محطة وصول، فالكتاب نافذة وطريق لتحصيل العلم وتحصين الفكر وحماية
النفس من التخبط في عوالم الآراء والأفكار والأطروحات وليست مقصداً بحد ذاتها،
أقول هذا تنبيه لبعض الكتبيين الذين غاية همهم ومبلغ علمهم الجمع والتكديس
ورص المكتبات المنزلية بالأوراق والتباهي بعدد المقتنيات أو عد ما أنفقوا من
الريالات؟!
هذا مدخل مبتسر ومفتتح مختصر نسهل به الوصول لما نريد البوح به والتنفيس
عنه ألا وهو الغاية الأسمى والمرتبة العظمى من الاقتناء والتبضع من المكتبات
ومعارض الكتب فما هي هذه الغاية وما عساها أن تكون تلك المرتبة؟
إنها منصة الانطلاق التي تُسخَّر لها كل المنابر الإعلامية وليس
ذلك كثيراً في حقها وهي الغاية من القراءة ومرتبة الاجتهاد في النظر ولا أظن حقلاً
علمياً ولا ميداناً فكرياً ألا وأربابه يتشوفون لهذه الغاية ويتطلعون لهذا
المرتبة، فلماذا نقر؟ وكيف نقرأ؟
ومن وفق في الإجابة عن هذين السؤالين بحاله لا بمقاله فقد وصل ومن
لم يوفق للإجابة فقد حُرم.
لماذا نقرأ؟
وكيف نقرأ؟
لماذا نقرأ؟
هل نقرأ لجمع المعلومات وهي أي المعلومات تعددت مصادرها ووسائلها
مسموعة ومرئية وعلى مدار الساعة تنهمر علينا المعلومة تلو الأخرى، ولا يخفى ما
لكثرة المعلومات من أثر في تعسر التحليل والفهم وإصدار الحكم، وكما قالوا فكثرة
المعلومات لا تقل سوء عن قلتها، لماذا؟ لأن صاحب المعلومات يكررها ويستحضرها
ويوظفها بمناسبة وغير مناسبة، وقد ينزلها في غير مكانها المناسب، ويخطئ في
الاستشهاد بها مثل ما هو حاصل اليوم في مواقع التواصل من حرب المعلومات، فالأول
يستشهد بالمعلومة على شيء والآخر يستشهد بها على ضده مع أنها المعلومة نفسها!
وضاعت البوصلة وتمزقت الخريطة؟!
القراءة فعل تواصلي مع الكاتب ونفسيته ومع الكتاب ومزاجه وروحه،
فللكاتب نفسية وللكتاب مزاج وروح، بل إن بعض الكتب تكاد تنطق بين يديك، وبعض
الكتَّاب تتراءى تضوره أو تراجعه أو إقدامه أو تستمع حتى لأنينه الداخلي ، هكذا
يحتضن القارئ المرهف الحس الكتاب، إنه يعامله ككائن حي ينمو ويكبر ويتكاثر بل
ويقفز من جهة إلى أخرى والقارئ يتابعه ويلاحقه ويحاوره ويخاصمه، وأيما كتاب لا
يمتلك الحياة فلن يعطيك الحياة ، إنه مجرد أوراق بيض مخططة بالحبر، نعم هناك
كتب صغيرة ومفيدة لك في البدايات وهناك كتب لا تزال تكبر وتكبر وتنمو معك فلا تمل
من مطالعته ولا تفتأ تعود إليه كرة بعد أخرى فترى فيه ما لم تر في المرة الأولى ،
ومثل هذا النوع من الكتب أندر من الكبريت الأحمر في طوفان المطابع ، الكتاب الحي
يضيف إليك ، يعطيك منه ، ينتزع من جوفه ويودع جوفك ، تنقص أوراقه لتزيد أنت ، يبلى
جرمه لتتجدد أنت، وبين طياته جذوة تتحرق لتضيء لك الطريق ، وهو مع ذلك كله يتحداك
ويقف أمامك بكل عناد ويستعصي عليك بل وتستغلق بعض صفحاته أو فصوله فإن لم تكن بحجم
التحدي تركك وأعرض عنك وكتم أنفاسه على الرف مصفوفاً بين الكتب منغلقاً على نفسه
قد أدار ظهره لك ، وفي الحقيقة لا بد أن يكون الكتاب أكبر منك كي تتسلق عليه وتبذل
الجهد في عراكه بشرط أن تمتلك الشروط القرائية اللازمة لمستوى هذا الكتاب ولا بد
أن يكون الكتاب مناسباً لمرحلتك القرائية لا العمرية، فالقراءة لا تحسب بالسنوات
العمرية ولا حتى بالسنوات القرائية بل بالمرحلة القرائية ، بمعنى حجمك كقارئ ، ولا
نقصد أيضاً حجم المعلومات لديك فمهما تكن ومهما يكن حجمها فكتبانا الكبير الذي
نقصد لا تستطيعه بكثرة المعلومات بل بأن تكون عملاقاً في احتوائك للكتاب وتعاطيك
معه بأن تغترف منه آليات الفهم والاستنباط ، أن تتناول منه قواعد الكاتب وأصوله
التي بنى عليها وتحاكمها بمحاكمات تناسب الحقل الذي تقرأ فيه لتتأكد من سلامتها من
عدمه ، من عبقريتها من عدمها ، من ابتكارها من عدمه ، من إضافتها للفن الذي تتعاطى
معه من عدمها ، هكذا تقرأ الكتب فالكتب لا تأكل كما يقولون بل تعصر عصراً ويشرب
عصيرها.
إذن أنت مطالب بإعادة إنتاج الكتاب مجددا من خلال الفعل القرائي
فلا يكفي أن تسرد ما فيه من مباحث وفصول أو معلومات بل لا بد من أن تشير إلى مواطن
الإضافة للفن المقروء فيه أو حصيلة الإضافة لمخزونك الفكري لا أقصد المخزون المعلوماتي
أي الهاردسك ؟!
لا بل أقصد معمل التحكيم الذهني الذي تمارس من خلاله النظر
والنقد ، ولا أقصد هنا نقدك للكتاب مع أهميته بل أقصد الأدوات التي تشربتها من
خلال القراءة وهذه هي الإضافة الحقيقية ، أما إذا بدأت من حيث انتهى الكاتب فتلك
قصة أخرى ، وهذا هو الذي نفرِّق به بين "دود الكتب والكتبيين" ومن لف
لفيفهم ممن يتفاخر بالتهام الكتب وعشق الكتاب ، ويلوث قريحتك وهو يتغزل بالكتب ،
وبين القارئ الفاعل لا المفعول به ، إننا لا نريد من يقرأ عشرين ساعة في اليوم بل
ولا نصف هذا الوقت ، بل أكاد أجزم أن المسألة ليست مسألة كم تمضي في المكتبة بل
الغاية هي أن تهضم الكتاب ليتحول إلى أدوات طيعة على لسانك وأسلة بنانك بعدما أرخى
لها عقلك عنانك ، ولا نغفل ونحن نتناول القراءة المنتجة عنصر التحليل فماذا تعني
القراءة بلا تحليل!
إنها تعني ضياع الوقت وإنهاك العين ، ولكن عندما تُشغِّل الحواس
جميعها من نظر وسمع وشم ولمس وتُمرِّن سير التحكيم في ذهنك فإنك بذلك توزِّع
المهام ، وتفرِّق الحمل ، وتتنفس بشكل جيد ، وتتناغم نفسك مع كل ذلك ، وتعانق روحك
روح الكاتب فتتابعها وتسآئلها وتناورها ، إنك تناقش الكاتب وتطرح عليه الأسئلة وهو
حر في إعطاء الإجابات ، إما أن تكون كاملة أو ناقصة فتبحث عن تكملتها ، مفتوحة أو
مغلقة أو يجيب على سؤالاتك بسؤال ، حلل الأبواب ، حلل الفصول ، حلل الكلمات ، حلل
المقدمة والخاتمة ، حلل النتائج والتوصيات ، أضف إليها ، أخصم منها ، أقبل بعضها ،
أرفض البعض الآخر ، فأنت قارئ لا دودة؟!
وقبل كل هذا حضِّر الإجابة على سؤال أسذج من تقابل من غير القراء
فسؤالهم البسيط وهو أخطر الأسئلة (عن ماذا يتحدث هذا الكتاب)؟
لا تستهن بهذا السؤال فإن لم تكن قارئاً فاعلاً فسيسقط في يدك لأنك
بعد ساعات من القراءة لا تدري ماذا يريد الكاتب أن يقول ، ومن باب أولى فلن تدري
كيف قال ذلك ، ولماذا اختار هذه الكيفية دون غيرها ، وهل قال ما يريد قوله كاملاً
أم ناقصاً أم شرد عنه ، وما هي افتراضاته واشتراطاته ، وهل تخلفت نتائجه عن
مقدماته أم توافقت ، ولا نريد التعمق أكثر من ذلك ، ولكننا نختم هذه الوصلة
بأن الكاتب الذي يثير المشكلات هو الكاتب الممتاز والجدير بالجهد المبذول في
قراءته ، والقارئ الذي يكتشف هذه المشكلات ويحددها ويرتبها ويقف على منطلقاتها من
جذورها ليقتلعها وقبل أن يُحلِّلها ليَحُلَّها يغرسها في حقله القرائي الداخلي
ليفجر من خلالها مشكلاته هو وأسئلته هو واعتراضاته هو ، وهكذا تبنى المعارف
والعلوم ، لا أقصد بطبيعة الحال مشكلات مثيري الشغب والرافضين لمجرد الرفض ،
ولا أقصد كذلك أصحاب الأغلوطات ، فهؤلاء لا مكان لهم في هذه التوصية، وإنما أقصد
الأذكياء ، لا أقول مؤسسو العلوم ، بل من الذين تكاملت على أيديهم بنايات العلوم ،
وتنظمت على نظرهم مسارات الأفكار فهؤلاء هم الذي أثاروا المشكلات ليكون حلها هو
المساهمة الحقيقية في إكمال ما بناه الأوائل لا الجمود عليه.
فلماذا نقرأ وكيف نقرأ؟
هذا ما سنتعرف عليه في التدوينة القادمة،،
تعليقات
إرسال تعليق